اهتمَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - بالجانب السلوكيِّ لدى المعلِّمين من أصحابه، سواء الذين كانوا مقيمين عنده؛ ليعلِّموا الوافدين إلى المدينة والمهتدِين الجُدُد إلى الإسلام، أو الذين كان ينتدبُهم لتعليم الناس في الأقاليم والمناطق النائية عن المدينة.
فمن الأمثلة على إشرافه التربوي، وتوجيهاتِه للمعلمين المقيمين عنده:
قصةُ تعامُلِه مع الأعرابيِّ الذي بَالَ في المسجد؛ كما في حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - أنه قال: "بينما نحن في المسجد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ جاء أعرابيٌّ، فقام يبول في المسجد، فقال أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مَهْ مهْ! قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تُزْرِموه[6]، دَعُوه))، فتركوه حتى بال، ثم إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دَعَاه فقال له: ((إن هذه المساجد لا تَصلُح لشيءٍ من هذا البولِ ولا القَذَر؛ إنما هي لذِكْرِ الله - عز وجل - والصلاةِ، وقراءةِ القرآن)) - أو كما قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم – قال: فأمَرَ رجلاً من القوم، فجاء بدلوٍ من ماء فشَنَّه عليه"[7].
وجاء في رواية للبخاري: فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((دَعُوه وأهريقوا على بوله ذَنُوبًا من ماءٍ، أو سَجْلاً من ماء؛ فإنما بُعثتم مُيسِّرين، ولم تُبعثوا معسِّرين))[8]، كما جاء في رواية أخرى: ((احْفِروا مكانه، واطرحوا عليه دلوًا من ماء، علِّموا ويَسِّروا ولا تُعسِّروا))[9].
ففي هذه القصةِ نجد مظاهرَ متعددةً من الممارسات الإشرافية، تهدف إلى تعديل سلوك المعلِّمين، وتحسينِ العملية التعليمية بعنصريها: المعلم والمتعلِّم.
حيث نبَّه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أصحابَه إلى وجْه الخطأ في تصرُّفهم مع هذا الأعرابي الجاهل، الذي هو بحاجة إلى التعليم، لا إلى التعنيف؛ ولذلك ذَكَرَ العلماءُ من الفوائد المترتبة على هذا الحديث: "الرِّفق بالجاهل، وتعليمه ما يلزمه من غير تعنيف ولا إيذاء، إذا لم يأتِ بالمخالفة استخفافًا أو عنادًا، وفيه: دفعُ أعظم الضررين باحتمال أخفِّهما؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((دعوه))، قال العلماء: كان قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((دعوه)) لمصلحتين: إحداهما: أنه لو قطع عليه بوله تضرَّر، وأصلُ التنجيس قد حصل، فكان احتمال زيادتِه أولى من إيقاع الضرر به، والثانية: أن التنجيس قد حصل في جزءٍ يسير من المسجد، فلو أقاموه في أثناء بوله، لتنجَّستْ ثيابُه وبَدنُه ومواضعُ كثيرةٌ من المسجد"[10].
ثم أرسى النبي - صلى الله عليه وسلم - قواعدَ الأسلوب الأمْثل لتعامُلِ المعلمين مع هذه الحالات، من خلال بيانه النظري: ((علِّموا ويسروا ولا تعسروا))، ((فإنما بُعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين))، ولم يَكْتفِ بهذا البيان النظري؛ بل أتْبعَه بتطبيق عملي حين دعا الأعرابيَّ وعلَّمه آداب المساجد، وأحكامَ الطهارة، ونحو ذلك، فكان حديثه تعليمًا للأعرابي (التلميذ)، وتدريبًا للصحابة (المعلمين).
أما إشرافه - صلى الله عليه وسلم - على المعلِّمين المبتعَثين إلى الأماكن البعيدة، فيتمثل فيما يلي: 1- اختيار المعلمين الأكْفَاء:
ويتجلَّى ذلك في حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: جاء ناسٌ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: أنِ ابعثْ معنا رجالاً يُعلِّمُونا القرآنَ والسُّنة، فبعَثَ إليهم سبعين رجلاً من الأنصار، يقال لهم: القُرَّاء، فيهم خالي حَرَامٌ، يَقرؤون القرآن ويتدارسون باللَّيل يتعلَّمون، وكانوا بالنهار يجيئون بالماء فيَضَعونه في المسجد، ويَحْتَطبون، فيَبيعونه ويَشترون به الطعامَ لأهل الصُّفَّة وللفقراء"[11].
وهذا الحديث يكشف لنا عن جانبٍ تربوي مهم، لم تفطن له المدارسُ التربوية إلا في وقت متأخر جدًّا، مع أنه عنصر متجذر في التربية الإسلامية، ونعني به الوظيفةَ الاجتماعية للمعلم، بأن يكون له مساهمةٌ إيجابية في تقديم الخدمات الاجتماعية، وربط الأسرة المدرسة بالبيئة الاجتماعية المحلية، وهذا ما نجده بوضوحٍ كامل في وصف هؤلاء المعلمين بأنهم: "بالليل يتعلَّمون، وكانوا بالنهار يجيئون بالماء فيضعونه في المسجد، ويحتطبون، فيبيعونه ويشترون به الطعامَ لأهل الصُّفَّة وللفقراء"، ولا يتحقق هذا التفاعلُ الاجتماعي الرائع إلا بممارسة إشرافية متكاملة، حَظِيَ بها هؤلاء المعلمون على يد مشرفِهم ومربِّيهم الأول نبيِّنا محمدٍ - عليه الصلاة والسلام.
2- تزويد المعلمين بالنصائح والتعليمات النافعة:
ومن الأمثلة على ذلك: ما جاء عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه -: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بَعَثَهُ ومعاذًا إلى اليمن، فقال لهما: ((بشِّرا ويسِّرا، وعلِّما ولا تنفِّرا - وأراه قال: وتطاوَعَا))[12].
ففي هذا الحديث نجده - صلى الله عليه وسلم - يزوِّد هذين المعلِّمَينِ بنصائحَ مفيدةٍ، بعضُها يتعلِّق بأسلوب التعامُل مع التلاميذ المتعلمين (التعليم، والتبشير والتيسير، وعدم التنفير)، ونصائحُ تتعلق بتعامُلهما فيما بينهما بأن يتطاوعا (يُطيع كلٌّ منهما الآخرَ)، وذلك بتحقيق الاحترام المتبادل بينهما، وهذا له أثَرٌ كبير في نجاح العملية التعليمية، خاصة في تلك الظروفِ التي كان فيها ارتباطٌ وثيق بين انتشارِ الإسلام ونجاحِ العملية التعليمية.
3- تشجيع المعلمين ورفع روحهم المعنوية:
إذا كان علماء التربية يُوصُون المشرفين التربويين بضرورة تشجيع المعلِّم، ورفعِ روحه المعنوية، وتعزيزِ ثقته بنفسه، فإن نبيَّنا - عليه الصلاة والسلام - كان أسبْقَهم إلى مراعاة هذا الجانب وتطبيقه على أرض الواقع، كما يتَّضح لنا ذلك في الحديث التالي:
عن أنس - رضي الله عنه -: "أن أهل اليمن قدِمُوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالُوا: ابعثْ معنا رجُلاً يُعلِّمْنا السُّنَّةَ والإسلام، قال: فأخَذَ بيدِ أبي عُبيدةَ فقال: ((هذا أمينُ هذه الأُمَّة))[13].
فهذه العبارة التي وَصَفَ بها النبيُّ - عليه الصلاة والسلام - مبعوثَه أبا عبيدةَ، كانت لتحقيق هدفين تربويين مهمين: أولهما: رفعُ الروح المعنوية للمعلم (أبي عبيدة)، وتعزيزُ ثقته بنفسه، وإشعارُه بثقة القيادة فيه؛ حتى يسعى للمحافظة على هذه الثقة، ويكون عند حُسن الظن.
والهدف الثاني: إعلامُ التلاميذ (أهل اليمن) بعِظَمِ مكانة هذا المعلِّم ومنزلته عند نبيِّ الإسلام؛ حتى يحرصوا على الاستفادة منه، ويُعامِلوه بما يستحقُّه من تقدير واحترام.
4- عقد اللقاءات مع المعلمين والتعرُّف على إنجازاتهم:
ومن الأمثلة على ذلك: لقاءُ النبيِّ - عليه الصلاة والسلام - مع مصعب بن عمير في بَيعة العقبة الثانية بعد عامٍ من بعثته إلى المدينة، حيث كان برفقته اثنان وسبعون رجلاً وامرأتان من الذين أسلموا وتعلَّموا على يديه، فكان ذلك تقريرًا عمليًّا رفَعَه هذا المعلِّمُ المتميِّز إلى مشْرفه العظيم - صلوات الله وسلامه عليه.
وقد يَحدُث بعد هذه اللقاءاتِ إذا حقَّق الصحابيُّ (المعلم) نجاحًا في مهمته، أن يعيد النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ابتعاثه إلى مكانٍ آخرَ؛ ليقدِّم لأهله ما يحتاجون إليه من تعليمٍ وإرشاد وتثقيف، كما في حالة معاذ بن جبل - رضي الله عنه - الذي استخلفه النبي - صلى الله عليه وسلم - على مكةَ عامَ فتحِها مع عَتَّاب بن أَسِيد (الوالي عليها)؛ ليعلِّم أهلَها، فجاء معاذٌ بعد أداء مهمته إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فكان معه في غزوة تبوك، ثم بعثه النبي - عليه الصلاة والسلام - إلى اليمن بعد ذلك[14].
5- اختبار المعلمين والتعرف على قدراتهم العلمية:
وخير مثال على ذلك ما جاء عن أُبيِّ بن كعب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يا أبا المنذر، أتدري أيُّ آيةٍ من كتابِ الله معك أعظمُ؟))، قال: قلتُ: الله ورسوله أعلم، قال: ((يا أبا المنذر، أتدري أي آيةٍ من كتاب الله معك أعظم؟))، قال: قلتُ: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 255]، قال: فضرب في صدري وقال: ((واللهِ لِيَهْنِكَ العِلمُ أبا المنذر))[15].
فسؤالُ النبيِّ - عليه الصلاة والسلام - لهذا الصحابي، ليس سؤالاً من أستاذ لتلميذ فحسْبُ، وإنما هو سؤال مشْرِف لمعلِّم؛ نظرًا للمكانة العلمية التي كان يتمتع بها هذا الصحابيُّ أبي بن كعب، باعتباره أحدَ القراء المعدودين الذين جمعوا القرآن على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وكونه أحدَ كتاب الوحي، وتولى مهمة الإفتاء والتعليم في حياته - عليه الصلاة والسلام.
ولهذا يعقِّب النووي - رحمه الله - في شرحه لصحيح مسلم على هذا الحديث بقوله: "فيه منقبةٌ عظيمة لأُبيٍّ، ودليلٌ على كثرة عِلمه، وفيه تبجيلُ العالمِ فضلاءَ أصحابه وتكنيتهم، وجوازُ مدح الإنسان في وجهه إذا كان فيه مصلحة، ولم يُخفْ عليه إعجابٌ ونحوه؛ لكمال نفسه ورسوخه في التقوى"[16].
6- متابعة المعلمين وتربيتهم روحيًّا وإيمانيًّا:
من مظاهر العمليَّة الإشرافية التي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يؤديها تجاه أصحابه (المعلمين): عنايتُه بترقية حسِّهم الإيماني، وتعميقِ جانب الإخلاص لله - تعالى - وابتغاء رضوانه فيما يقومون به من مهامِّ التعليم والتدريس؛ ولذلك فقد كان - عليه الصلاة والسلام - حريصًا أشدَّ الحرص على ترسيخ عنصر الإخلاص ومراقبة الله - تعالى - في نفوس أصحابه، وعدم ترك النَّزَعات المادية والأهواء تتسلَّل إلى نفوسهم وتسيطر عليهم.
ولذلك نجده - عليه الصلاة والسلام - يَنهى أصحابَه عن أخْذ أجرٍ مادي في مقابل ما يقومون به من تعليمٍ للقرآن الكريم؛ ليبقى عملُهم خالصًا لوجه الله - تعالى - ويجدوا ثوابه عنده كاملاً يوم القيامة، وفي ذلك يروي عبادةُ بن الصامت - رضي الله عنه - قائلاً: علَّمتُ ناسًا من أهل الصُّفَّةِ الكتابَ والقرآن، فأهْدَى إليَّ رجلٌ منهم قوسًا، فقلتُ: ليستْ بمالٍ وأرمي عنها في سبيل الله - عز وجل - لآتينَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فلأسألنَّه، فأتيتُه فقلتُ: يا رسول الله، رجلٌ أهدى إليَّ قوسًا ممن كنتُ أعلِّمُه الكتابَ والقرآن، وليستْ بمالٍ، وأرمي عنها في سبيل الله، قال: ((إن كنتَ تُحبُّ أن تُطوَّق طوقًا من نارٍ، فاقْبلْها))[17].
وقد كان هذا الحديث مثارَ جدلٍ واسع بين العلماء حول حُكم أخْذ الأجرة على التعليم، حيث "ذهب بعضهم إلى ظاهِرِه، فرأَوْا أن أخْذ الأجرة على تعليم القرآن غيرُ مباح، وإليه ذهب الزهريُّ وأبو حنيفة وإسحاق بن راهويه، وقال طائفة: لا بأس به ما لم يَشْتَرِطْ، وهو قول الحسن البصري وابن سيرين والشعبي، وأباح ذلك آخرون، وهو مذهب عطاء ومالك والشافعي وأبي ثور"[18].
ولا يتَّسع لنا المجالُ لمناقشة كلٍّ مِن هؤلاء في أدلتهم وحُججهم، ولكننا هنا نشير إلى أن هذا التوجيهَ النبويَّ الكريم بمنْع الصحابي المعلِّمِ من أخْذ هديةٍ في مقابل قيامه بواجب التعليم، إنما هو نابعٌ من الفلسفة العامة التي كان يسير عليها المجتمعُ الإسلامي في ذلك الوقت، والمتمثِّلة في تقديم الهدف الأخروي على الهدف الدنيوي في جميع الحركات والسكنات، وهذا يتَّسق مع طبيعة الإشراف التربوي في مفهومه الحديث، حيث "يستمدُّ الإشرافُ فلسفتَه من فلسفة وأهداف المجتمع الذي يمارسه؛ فهو تعبير عن حياة المجتمع والمُثُلِ السائدة فيه"[19].
فهذه بعضُ النماذج التي تكشف عن الوظيفة الإشرافية التي كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يمارسها على المعلمين من أصحابه؛ بهدف الارتقاء بمستوياتهم العلمية، وتحسينِ أساليبهم التعليمية، وتعديلِ معاملاتهم السلوكية.
وجاء في رواية للبخاري: فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((دَعُوه وأهريقوا على بوله ذَنُوبًا من ماءٍ، أو سَجْلاً من ماء؛ فإنما بُعثتم مُيسِّرين، ولم تُبعثوا معسِّرين))[8]، كما جاء في رواية أخرى: ((احْفِروا مكانه، واطرحوا عليه دلوًا من ماء، علِّموا ويَسِّروا ولا تُعسِّروا))[9].
ففي هذه القصةِ نجد مظاهرَ متعددةً من الممارسات الإشرافية، تهدف إلى تعديل سلوك المعلِّمين، وتحسينِ العملية التعليمية بعنصريها: المعلم والمتعلِّم.
حيث نبَّه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أصحابَه إلى وجْه الخطأ في تصرُّفهم مع هذا الأعرابي الجاهل، الذي هو بحاجة إلى التعليم، لا إلى التعنيف؛ ولذلك ذَكَرَ العلماءُ من الفوائد المترتبة على هذا الحديث: "الرِّفق بالجاهل، وتعليمه ما يلزمه من غير تعنيف ولا إيذاء، إذا لم يأتِ بالمخالفة استخفافًا أو عنادًا، وفيه: دفعُ أعظم الضررين باحتمال أخفِّهما؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((دعوه))، قال العلماء: كان قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((دعوه)) لمصلحتين: إحداهما: أنه لو قطع عليه بوله تضرَّر، وأصلُ التنجيس قد حصل، فكان احتمال زيادتِه أولى من إيقاع الضرر به، والثانية: أن التنجيس قد حصل في جزءٍ يسير من المسجد، فلو أقاموه في أثناء بوله، لتنجَّستْ ثيابُه وبَدنُه ومواضعُ كثيرةٌ من المسجد"[10].
ثم أرسى النبي - صلى الله عليه وسلم - قواعدَ الأسلوب الأمْثل لتعامُلِ المعلمين مع هذه الحالات، من خلال بيانه النظري: ((علِّموا ويسروا ولا تعسروا))، ((فإنما بُعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين))، ولم يَكْتفِ بهذا البيان النظري؛ بل أتْبعَه بتطبيق عملي حين دعا الأعرابيَّ وعلَّمه آداب المساجد، وأحكامَ الطهارة، ونحو ذلك، فكان حديثه تعليمًا للأعرابي (التلميذ)، وتدريبًا للصحابة (المعلمين).
أما إشرافه - صلى الله عليه وسلم - على المعلِّمين المبتعَثين إلى الأماكن البعيدة، فيتمثل فيما يلي: 1- اختيار المعلمين الأكْفَاء:
ويتجلَّى ذلك في حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: جاء ناسٌ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: أنِ ابعثْ معنا رجالاً يُعلِّمُونا القرآنَ والسُّنة، فبعَثَ إليهم سبعين رجلاً من الأنصار، يقال لهم: القُرَّاء، فيهم خالي حَرَامٌ، يَقرؤون القرآن ويتدارسون باللَّيل يتعلَّمون، وكانوا بالنهار يجيئون بالماء فيَضَعونه في المسجد، ويَحْتَطبون، فيَبيعونه ويَشترون به الطعامَ لأهل الصُّفَّة وللفقراء"[11].
وهذا الحديث يكشف لنا عن جانبٍ تربوي مهم، لم تفطن له المدارسُ التربوية إلا في وقت متأخر جدًّا، مع أنه عنصر متجذر في التربية الإسلامية، ونعني به الوظيفةَ الاجتماعية للمعلم، بأن يكون له مساهمةٌ إيجابية في تقديم الخدمات الاجتماعية، وربط الأسرة المدرسة بالبيئة الاجتماعية المحلية، وهذا ما نجده بوضوحٍ كامل في وصف هؤلاء المعلمين بأنهم: "بالليل يتعلَّمون، وكانوا بالنهار يجيئون بالماء فيضعونه في المسجد، ويحتطبون، فيبيعونه ويشترون به الطعامَ لأهل الصُّفَّة وللفقراء"، ولا يتحقق هذا التفاعلُ الاجتماعي الرائع إلا بممارسة إشرافية متكاملة، حَظِيَ بها هؤلاء المعلمون على يد مشرفِهم ومربِّيهم الأول نبيِّنا محمدٍ - عليه الصلاة والسلام.
2- تزويد المعلمين بالنصائح والتعليمات النافعة:
ومن الأمثلة على ذلك: ما جاء عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه -: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بَعَثَهُ ومعاذًا إلى اليمن، فقال لهما: ((بشِّرا ويسِّرا، وعلِّما ولا تنفِّرا - وأراه قال: وتطاوَعَا))[12].
ففي هذا الحديث نجده - صلى الله عليه وسلم - يزوِّد هذين المعلِّمَينِ بنصائحَ مفيدةٍ، بعضُها يتعلِّق بأسلوب التعامُل مع التلاميذ المتعلمين (التعليم، والتبشير والتيسير، وعدم التنفير)، ونصائحُ تتعلق بتعامُلهما فيما بينهما بأن يتطاوعا (يُطيع كلٌّ منهما الآخرَ)، وذلك بتحقيق الاحترام المتبادل بينهما، وهذا له أثَرٌ كبير في نجاح العملية التعليمية، خاصة في تلك الظروفِ التي كان فيها ارتباطٌ وثيق بين انتشارِ الإسلام ونجاحِ العملية التعليمية.
3- تشجيع المعلمين ورفع روحهم المعنوية:
إذا كان علماء التربية يُوصُون المشرفين التربويين بضرورة تشجيع المعلِّم، ورفعِ روحه المعنوية، وتعزيزِ ثقته بنفسه، فإن نبيَّنا - عليه الصلاة والسلام - كان أسبْقَهم إلى مراعاة هذا الجانب وتطبيقه على أرض الواقع، كما يتَّضح لنا ذلك في الحديث التالي:
عن أنس - رضي الله عنه -: "أن أهل اليمن قدِمُوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالُوا: ابعثْ معنا رجُلاً يُعلِّمْنا السُّنَّةَ والإسلام، قال: فأخَذَ بيدِ أبي عُبيدةَ فقال: ((هذا أمينُ هذه الأُمَّة))[13].
فهذه العبارة التي وَصَفَ بها النبيُّ - عليه الصلاة والسلام - مبعوثَه أبا عبيدةَ، كانت لتحقيق هدفين تربويين مهمين: أولهما: رفعُ الروح المعنوية للمعلم (أبي عبيدة)، وتعزيزُ ثقته بنفسه، وإشعارُه بثقة القيادة فيه؛ حتى يسعى للمحافظة على هذه الثقة، ويكون عند حُسن الظن.
والهدف الثاني: إعلامُ التلاميذ (أهل اليمن) بعِظَمِ مكانة هذا المعلِّم ومنزلته عند نبيِّ الإسلام؛ حتى يحرصوا على الاستفادة منه، ويُعامِلوه بما يستحقُّه من تقدير واحترام.
4- عقد اللقاءات مع المعلمين والتعرُّف على إنجازاتهم:
ومن الأمثلة على ذلك: لقاءُ النبيِّ - عليه الصلاة والسلام - مع مصعب بن عمير في بَيعة العقبة الثانية بعد عامٍ من بعثته إلى المدينة، حيث كان برفقته اثنان وسبعون رجلاً وامرأتان من الذين أسلموا وتعلَّموا على يديه، فكان ذلك تقريرًا عمليًّا رفَعَه هذا المعلِّمُ المتميِّز إلى مشْرفه العظيم - صلوات الله وسلامه عليه.
وقد يَحدُث بعد هذه اللقاءاتِ إذا حقَّق الصحابيُّ (المعلم) نجاحًا في مهمته، أن يعيد النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ابتعاثه إلى مكانٍ آخرَ؛ ليقدِّم لأهله ما يحتاجون إليه من تعليمٍ وإرشاد وتثقيف، كما في حالة معاذ بن جبل - رضي الله عنه - الذي استخلفه النبي - صلى الله عليه وسلم - على مكةَ عامَ فتحِها مع عَتَّاب بن أَسِيد (الوالي عليها)؛ ليعلِّم أهلَها، فجاء معاذٌ بعد أداء مهمته إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فكان معه في غزوة تبوك، ثم بعثه النبي - عليه الصلاة والسلام - إلى اليمن بعد ذلك[14].
5- اختبار المعلمين والتعرف على قدراتهم العلمية:
وخير مثال على ذلك ما جاء عن أُبيِّ بن كعب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يا أبا المنذر، أتدري أيُّ آيةٍ من كتابِ الله معك أعظمُ؟))، قال: قلتُ: الله ورسوله أعلم، قال: ((يا أبا المنذر، أتدري أي آيةٍ من كتاب الله معك أعظم؟))، قال: قلتُ: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 255]، قال: فضرب في صدري وقال: ((واللهِ لِيَهْنِكَ العِلمُ أبا المنذر))[15].
فسؤالُ النبيِّ - عليه الصلاة والسلام - لهذا الصحابي، ليس سؤالاً من أستاذ لتلميذ فحسْبُ، وإنما هو سؤال مشْرِف لمعلِّم؛ نظرًا للمكانة العلمية التي كان يتمتع بها هذا الصحابيُّ أبي بن كعب، باعتباره أحدَ القراء المعدودين الذين جمعوا القرآن على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وكونه أحدَ كتاب الوحي، وتولى مهمة الإفتاء والتعليم في حياته - عليه الصلاة والسلام.
ولهذا يعقِّب النووي - رحمه الله - في شرحه لصحيح مسلم على هذا الحديث بقوله: "فيه منقبةٌ عظيمة لأُبيٍّ، ودليلٌ على كثرة عِلمه، وفيه تبجيلُ العالمِ فضلاءَ أصحابه وتكنيتهم، وجوازُ مدح الإنسان في وجهه إذا كان فيه مصلحة، ولم يُخفْ عليه إعجابٌ ونحوه؛ لكمال نفسه ورسوخه في التقوى"[16].
6- متابعة المعلمين وتربيتهم روحيًّا وإيمانيًّا:
من مظاهر العمليَّة الإشرافية التي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يؤديها تجاه أصحابه (المعلمين): عنايتُه بترقية حسِّهم الإيماني، وتعميقِ جانب الإخلاص لله - تعالى - وابتغاء رضوانه فيما يقومون به من مهامِّ التعليم والتدريس؛ ولذلك فقد كان - عليه الصلاة والسلام - حريصًا أشدَّ الحرص على ترسيخ عنصر الإخلاص ومراقبة الله - تعالى - في نفوس أصحابه، وعدم ترك النَّزَعات المادية والأهواء تتسلَّل إلى نفوسهم وتسيطر عليهم.
ولذلك نجده - عليه الصلاة والسلام - يَنهى أصحابَه عن أخْذ أجرٍ مادي في مقابل ما يقومون به من تعليمٍ للقرآن الكريم؛ ليبقى عملُهم خالصًا لوجه الله - تعالى - ويجدوا ثوابه عنده كاملاً يوم القيامة، وفي ذلك يروي عبادةُ بن الصامت - رضي الله عنه - قائلاً: علَّمتُ ناسًا من أهل الصُّفَّةِ الكتابَ والقرآن، فأهْدَى إليَّ رجلٌ منهم قوسًا، فقلتُ: ليستْ بمالٍ وأرمي عنها في سبيل الله - عز وجل - لآتينَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فلأسألنَّه، فأتيتُه فقلتُ: يا رسول الله، رجلٌ أهدى إليَّ قوسًا ممن كنتُ أعلِّمُه الكتابَ والقرآن، وليستْ بمالٍ، وأرمي عنها في سبيل الله، قال: ((إن كنتَ تُحبُّ أن تُطوَّق طوقًا من نارٍ، فاقْبلْها))[17].
وقد كان هذا الحديث مثارَ جدلٍ واسع بين العلماء حول حُكم أخْذ الأجرة على التعليم، حيث "ذهب بعضهم إلى ظاهِرِه، فرأَوْا أن أخْذ الأجرة على تعليم القرآن غيرُ مباح، وإليه ذهب الزهريُّ وأبو حنيفة وإسحاق بن راهويه، وقال طائفة: لا بأس به ما لم يَشْتَرِطْ، وهو قول الحسن البصري وابن سيرين والشعبي، وأباح ذلك آخرون، وهو مذهب عطاء ومالك والشافعي وأبي ثور"[18].
ولا يتَّسع لنا المجالُ لمناقشة كلٍّ مِن هؤلاء في أدلتهم وحُججهم، ولكننا هنا نشير إلى أن هذا التوجيهَ النبويَّ الكريم بمنْع الصحابي المعلِّمِ من أخْذ هديةٍ في مقابل قيامه بواجب التعليم، إنما هو نابعٌ من الفلسفة العامة التي كان يسير عليها المجتمعُ الإسلامي في ذلك الوقت، والمتمثِّلة في تقديم الهدف الأخروي على الهدف الدنيوي في جميع الحركات والسكنات، وهذا يتَّسق مع طبيعة الإشراف التربوي في مفهومه الحديث، حيث "يستمدُّ الإشرافُ فلسفتَه من فلسفة وأهداف المجتمع الذي يمارسه؛ فهو تعبير عن حياة المجتمع والمُثُلِ السائدة فيه"[19].
فهذه بعضُ النماذج التي تكشف عن الوظيفة الإشرافية التي كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يمارسها على المعلمين من أصحابه؛ بهدف الارتقاء بمستوياتهم العلمية، وتحسينِ أساليبهم التعليمية، وتعديلِ معاملاتهم السلوكية.
0 التعليقات لموضوع "الإشراف النبوي الهادف لتحسين سلوك المعلمين"
الابتسامات الابتسامات